ما أحوج أمتنا خاصة في هذا الزمان الذي عظمت فيه الغربة إلى ذوي الهمم العالية الذي يبثـُّون الأمل وسط أجواء اليأس، ويضيئون شعلة النور وسط الظلام، وبصحبتهم يستيقظ النائم، وينتبه الغافل، وينشط الكسول، وبجهدهم -بإذن الله- تستعيد الأمة صحوتها وعزتها.
الهمة العالية: طاقة تتوقد بداخل صاحبها تدفعه دفعاً قوياً لنيل المعالي والمنازل، وترفعه عن السفاسف والأمور الدنيئة الحقيرة، وتقويه على العوائق والعلائق والآفات التي يلاقيها.
لقد عايشتها! أليس إذا دخل عليك شهر رمضان المبارك تجد من نفسك طاقة وعزيمة متوقدة، فتلزم نفسك صلاة القيام من أول ليلة متغلباً على الكسل والخمول ودواعي الراحة، وتقبل على القرآن تلاوة وحفظاً، وتحرص على تكبيرة الإحرام في الجماعة وغير ذلك من أبواب البر والخير، وربما قبل ذلك بزمن طويل لم تصلِّ من الليل إلا قليلاً، أو مر عليك شهور أنسيت فيها حق القرآن، وكم استهنت بتكبيرة الإحرامّ؟!
أو لعل بعضنا يتذكر معصية ما قد أكثر منها قد حاول مراراً وتكراراً أن يتخلص منها فلم يستطع، وذات مرة حاسب نفسه واستشعر التقصير فاستحيا من الله -تعالى-، واستحضر الرغبة والرهبة فعلت همته وأجمع طاقته، واستعلى بإيمانه فقرر على الفور ترك هذه المعصية فخرج من حال إلى حال فذاق حلاوة الإيمان وحلاوة النصر على شيطانه وهواه، كمن أقبلت على الحجاب إقبالاً من بعد زمن التبرج، ومن ترك التدخين مثلاً في لحظة حاسمة، ومن تخلص من كسب حرام، وغير ذلك كثير.
هذه لحظات لعلو الهمة تذكرها لتتذكر كم عادت عليك بخير ولتستفيد منها.
والمؤمن في حياته التي هي في حقيقتها سير وسفر إلى الله -تعالى-، تلك الحياة بما فيها من فتن ومحن وابتلاءات، لابد له فيها من همة عالية تسيِّره وتستنفد طاقته، بل وتولِّد في نفسه رغبة جياشة في طلب المعالي والنفيس الباقي.
وكل مطلب وهدف دون الجنة هو عرض قليل فانٍ، وزخارف زائلة تعوق السير إلى الغاية الكبرى إلا أن يتخذ عوناً وبلاغاً إلى الآخر إلى النعيم المقيم الذي لا ينفد.
وإنما يتحقق ذلك بإذن الله لمن يبصر حقائق الأمور ولم تعمه الزخارف والزينات الزائفة والأماني الواهمة، وكان ذا عزيمة وحزم (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ) (الزمر:9)
فمن أدرك حقيقة الدنيا وأنها امتحان سرعان ما ينفض لتعلن النتائج، وأن حقيقتها معبر ووسيلة للآخرة لم يطلب أمراً من أمور الدنيا مطلباً لذاته كغاية، ولَجعلها بكل ما حصَّل منها وسيلة لرضا الله -تعالى- وبلاغاً إلى دار لخلود، وهذا السبيل خير ما يعمِّر الدنيا والآخرة معاً، فهو يتقن عمله ويتقي ربه، ولا يستعمل دنياه في الانحراف والفساد إنما يطلب بها رضا مولاه -جل وعلا-.
والله -تعالى- بيَّن لنا الحقائق بياناً جلياً واضحاً، وحذرنا من الانخداع والغرور بما خُلق من أجلنا عما خُلقنا من أجله.
قال -تعالى- مبيناً لنا الغاية التي خُلقننا من أجلها: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) (الذاريات:56-58).
وبيَّن لنا حقيقة الحياة الدنيا فقال -تعالى-: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا) (الملك:2)، وقال -تعالى-: (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (العنكبوت:64).
وقال -تعالى-: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُور) (الحديد:20)
- ثم علق -تعالى- قلوبنا بما عنده فقال: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ...) (الحديد:21)، وقال: (مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل:96)، وقال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) (فاطر:5)، وقال: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) (الأعلى:16-17).
فالرزق والدنيا بأسرها لا تطلب لذاتها إنما تطلب وسيلة لرضا الله وتعمير الآخرة بأن تكون عوناً على تحقيق العبودية لله -تعالى- كما قال -تعالى- في الحديث القدسي: (إنا أنزلنا المال لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة...) (صحيح الجامع)
-أما من جعل الدنيا غاية له يطلب فيها سعادته ومناه شقي بها ولابد -كما قال العلماء (من أحب شيئاً لغير الله عُذِّب به ولابد)، فمن أحب سيارة أو امرأة أو عقاراً أو أي شيء من حطام الدنيا الزائل ولم يتخذه بلاغاً إلى الآخرة شقي به ولابد، ربما ظن واهماً أنه وجد غايته وسعادته، ولكن سرعان بعد تحصيله أن يشقى ويتعس له، وربما أصابته الآفات والأمراض جراء طلب الدنيا والخوف من زوالها، لأنها في ذاتها بكل ما فيها من زخارف ومتاع لا تسعد أصحابها حقيقة، لأن السعادة الحقيقية سعادة القلب وسكونه وطمأنينته ورضاه، سواء أقبلت الدنيا أو أدبرت، ولا يكون هذا إلا من عند الله وحده، ولا يتحقق على التمام إلا بطاعته وذكره كما قال -تعالى-: (الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد:28)، وقال -تعالى-: (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى) (النجم:43)، وأما متاع الدنيا فمتاع ظاهر زائل كما قال -تعالى-: (اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآَخِرَةِ إِلا مَتَاعٌ) (الرعد:26)، كلما نال أهلها لوناً منه سرعان ما يصابوا بالملل والضيق منه ليبحثوا عن ألوان أخرى من المتاع والشهوات وسُكْرٍ جديد لئلا يستفيق القلب إلى حقيقة تعاسته ونَصَبه وحرمانه من رصيد السعادة الحقيقية (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) (طه:124)، وربما أبعدهم السعي واللهث وراء الدنيا بعداً سحيقاً عن طريق السعادة الحقيقية.
أما صاحب الهمة العالية لم يرض عن الله عوضاً، ولا يرضى بسوى الله -عز وجل- مطلباً وغاية، وجَّه القلب بكليته إلى الله -تعالى- وأحزم أمره وهمته على طلب النعيم الحقيقي والمقامات العالية، فعندها هانت عليه الدنيا، وصغرت في عينيه كأدنى من جناح البعوضة، وعندها سهل عليه البذل والتضحية بالنفس والمال والوقت بكل شيء في سبيل الله -تعالى-، كما قال الله عن هؤلاء الأقوام: (وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)، بل يصبح ذلك مصدر سعادته وقوته ونعيمه، لأنه يسير نحو غايته المنشودة، في الوقت الذي يظن فيه المنافقون وأصحاب القلوب المريضة أنه يهلك نفسه أو يحرمها، ولا يدرون أنه إنما ينجيها ويرحمها ويعزها يوم تزل الأقدام، ويبني لها قصوراً في دار الخلود لا تزول عنه ولا يزول عنها أبداً، ولكن أنَّى للمُبْعَد أن يدرك النعيم الحقيقي.
ولقد ربى النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه على هذه الحقائق. رباهم على سمو الغاية وغلو الهمة. فكانت همتهم في أعلى المعالي، وكانت سيرتهم تاريخاً لا مثيل له، مثال صادق لجيل اجتهد لنيل الكمال.
وغايتنا أن نقترب من حال هذا الجيل الذي مدحه الله -تعالى- ومدحه رسوله، ولعلنا بإذن الله نقف على شيء من هذه السيرة العطرة.
وختاماً ما أحوج أمتنا خاصة في هذا الزمان إلى ذوي الهمم العالية ليكونوا هم أصحاب الراية وقوَّاد المسيرة.
قال ابن الجوزي -رحمه الله- في "صيد الخاطر": "الدنيا دار سباق إلى أعالي المعالي، فينبغي لذي الهمة أن لا يقصِّر في شوطه، فإن سَبَق فهو المقصود، وإن كبا جواده مع اجتهاده لم يُلَمْ".